كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


ومن غير تكييف‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏"‏تكييف‏"‏‏:‏ لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها‏.‏

التكييف‏:‏ هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول‏:‏ كيف يكيف تكييفاً، أي ذكر كيفية الصفة‏.‏

التكييف يسأل عنه بـ‏(‏كيف‏)‏، فإذا قلت مثلاً‏:‏ كيف جاء زيدا‏؟‏ تقول‏:‏ راكباً‏.‏ إذاً‏:‏ كيفت مجيئه‏.‏ كيف لون السيارة‏؟‏ أبيض‏.‏ فذكرت اللون‏.‏

أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله، مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي‏:‏

أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منه وما بضن والإثم والبغي بغير حق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، والشاهد في قوله ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏‏.‏

فإذا جاء رجل وقال‏:‏ إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة‏:‏ نقول‏:‏ هذا قد قال على الله مالا يعلم‏!‏ هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية‏؟‏‏!‏ لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى‏.‏ فنقول‏:‏ هذا تكييف وقول على الله بغير علم‏.‏

ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي‏:‏ إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل‏؟‏ فقل‏:‏ إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل‏.‏ وهذه قاعدة مفيدة‏.‏

دليل آخر من السمع‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏:‏ لا تتبع ما ليس لك به علم، ‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة‏:‏ مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي‏:‏ إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته‏.‏ أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد‏:‏ إن فلاناً اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين‏.‏ فتعرف كيفيتها، لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال‏:‏ إن سيارة فلا صفتها كذا وكذا‏.‏‏.‏ ووصفها تماماً، فتدرك الكيفية الآن‏.‏

ولهذا أيضاً قال بعض العلماء جواباً لطيفاً‏:‏ إن معنى قولنا‏:‏ ‏"‏بدون تكييف‏"‏‏:‏ ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفى علمنا بالكيفية لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم، لأن مامن موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة‏.‏

سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏:‏ كيف استوى‏؟‏ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال‏:‏ ‏"‏الاستواء غير مجهول‏"‏، أي‏:‏ من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها ‏{‏استوى‏}‏ معداة بـ‏(‏على‏)‏ معناها العلو فقال‏:‏ ‏"‏الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول‏"‏ لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، ‏"‏والإيمان به واجب‏"‏، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، ‏"‏والسؤال عن بدعة‏"‏ ‏(1):‏ السؤال عن الكيفية بدعة، لأن من أهم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله‏:‏ ‏{‏استوى على العرش‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل‏:‏ كيف استوى‏؟‏ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سئلنا، فنقول‏:‏ هذا السؤال بدعة‏.‏

وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً‏:‏ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل‏؟‏ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عن بدعة والذين يسألون‏:‏ كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل‏؟‏‏!‏ فنقول‏:‏ السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم‏.‏ فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع‏.‏

والإمام مالك رحمه الله قال‏:‏ ‏"‏ما أراك إلا مبتدعاً‏"‏ ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم‏.‏

فأنت يا أخي عليك هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل‏:‏ سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم‏!‏

وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سألعنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً‏:‏ السؤال عن هذا بدعة‏.‏ وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل‏:‏ يا مبتدع‏!‏ السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً‏!‏

وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها‏:‏ ‏"‏أمروها كما جاءت بلا كيف‏"‏، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين‏:‏

أولاً‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ ‏"‏أمروها كما جاءت‏"‏ ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمر رناها كما جاءت، لزم من ذلك أن نثبت لها معنى‏.‏

ثانياً‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏بلا كيف‏"‏ لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث‏.‏

إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى‏.‏

ولا تمثيل‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ يعنى‏:‏ ومن غير تمثيل، فأهل السنة يتبرؤون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته‏.‏ والتمثيل‏:‏ ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول‏:‏ لي قلم كيفيته كذا وكذا‏.‏ فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول‏:‏ هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة‏.‏

وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون‏:‏ إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا جميع الصفات، يقولون‏:‏ إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية‏:‏

أ- الأدلة السمعية‏:‏

تنقسم إلى قسمين‏:‏ خبر، وطلب‏.‏

- فمن الخبر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله‏:‏ ‏{‏هل تعلم له سمياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية‏.‏

- وأما الطلب، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ نظراء مماثلين‏.‏ وقال ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 74‏]‏‏.‏

فمن مثل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله‏:‏ ‏"‏من شبه الله بخلقه، فقد كفر‏"‏ (2)، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب‏.‏

وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق‏:‏ فمن وجوه‏:‏

أولاً‏:‏ أن نقولك لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال‏:‏ إنهما متماثلان‏.‏

ثانياً‏:‏ أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل‏.‏

وأنزل الله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، تقول عائشة‏:‏ ‏"‏الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى على بعض حديثها‏"‏ (3)، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل‏:‏ إن سمع الله مثل سمعنا‏.‏

ثالثاً‏:‏ نقول‏:‏ نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، ‏{‏والأرض جميعاً قبضته‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق‏.‏

رابعاً‏:‏ نقول‏:‏ إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم‏:‏ هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس‏؟‏ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول‏:‏ إن لي يداً كيد الجمل، أولي يداً كيد الذرة، أول يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول‏:‏ إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط، بل هو واجب، فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال‏.‏

ربما نقول أيضاً‏:‏ هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة، ما ذهب يدعو الخالق‏.‏

فتبين الآن أن التمثيل منتف سمعاً وعقلاً وفطرة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا، هل هي تمثيل أو غير تمثيل‏؟‏ ونحن نضعها بين أيديكم‏:‏

- قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليل لبدر، لا تضامون في رؤيته‏)‏ (4) ، فقال‏:‏ ‏"‏كما‏"‏ والكاف للتشبيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله، فأجيبوا عن هذا الحديث‏؟‏

نقول‏:‏ نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين‏:‏ الجواب الأول مجمل والثاني مفصل‏.‏

فالأول المجمل‏:‏ أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً، لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض ‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏، فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك، فأعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك، فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة، فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت، لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية، بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق، كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه‏.‏

ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم، لأن هذه الطريق الراسخين في العلم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً‏.‏

وأما الجواب المفصل، فأن نجيب عن كل نص بعينه فنقول‏:‏

إن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته‏)‏ ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية، ‏"‏سترون‏.‏‏.‏‏.‏ كما ترون‏"‏، فالكاف في‏:‏ ‏"‏كما ترون‏"‏‏:‏ داخله على مصدر مؤول، لأن ‏(‏ما‏)‏ مصدرية، وتقدير الكلام‏:‏ كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله‏:‏ ‏"‏لا تضامون في رؤيته‏"‏ أو‏:‏ ‏"‏لا تضارون في رؤيته‏"‏ فزال الإشكال الآن‏.‏

- قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن الله خلق آدم على صورته‏)‏ (5) ، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال‏:‏ هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات، فالصورة مطابقة للصورة، والقائل‏:‏ ‏"‏إن الله خلق آدم على صورته‏"‏‏:‏ الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق‏.‏

والجواب المجمل أن نقول‏:‏ لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، فإن يسر الله لك الجمع، فاجمع، وإن لم يتيسر، فقل‏:‏ ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أما الله عز وجل‏.‏

هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً، لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ، فأقول‏:‏ هذا نفي للماثلة، وهذا إثبات للصورة، فقل‏:‏ إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول‏:‏ كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع‏.‏

وأما الجواب المفصل، فنقول‏:‏ إن الذي قال‏:‏ ‏(‏إن الله خلق آدم على صورته‏)‏ رسول الذي قال‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ والرسول لا يمكن أن ينطلق بما يكذب المرسل والذي قال‏:‏ ‏"‏خلق آدم على صورته‏"‏‏:‏ هو الذي قال‏:‏ ‏(‏إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر‏)‏(6) ، فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمل واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه‏؟‏‏!‏ فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه‏!‏ وإن شئنا قلنا‏:‏ دخلوا وهم أحجار‌‍ وإن قلت بالثاني، زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه‏.‏

فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال‏:‏ أنا لا أفهم إلا أنه مماثل‏.‏

قلنا‏:‏ هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله‏:‏ ‏"‏على صورته‏"‏، مثل قوله عزوجل في آدم‏:‏ ‏{‏ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 72‏]‏، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف، كما نقول‏:‏ عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا‏:‏ محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏خلق آدم على صورته‏"‏، يعني‏:‏ صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏، والمصور أدم إذاً، فآدم على صورة الله، يعني‏:‏ أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك، لا تضرب الوجه، فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول‏:‏ قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى، فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي‏.‏

ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير‏؟‏

نقول‏:‏ له نظير، كما في‏:‏ بيت الله، وناقة الله، وعبدالله، لأن هذه الصورة ‏(‏أي‏:‏ صورة آدم‏)‏ منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه، فهو من المخلوقات، فحينئذ يزول الإشكال‏.‏

ولكن إذا قال لقائل‏:‏ أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني‏؟‏ قلنا‏:‏ المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ما هي الصورة التي تكون لله ويكون أدم عليها‏؟‏

قلنا‏:‏ إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل‏.‏

نسمع كثيراً من الكتب الني نقرأها يقولون‏:‏ تشبيه، يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل، فأيما أولى‏:‏ أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل‏؟‏

نقول‏:‏ بالتمثيل أولى‏.‏

أولاً‏:‏ لأن القرآن عبر به‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن، فهو أولى من غيره، لأننا لا نجد أفصل من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل‏.‏ وهكذا في كل مكان، فإ، موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب‏.‏

ثانياً‏:‏ أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة‏:‏ مشبهة، فإن قلنا‏:‏ من غير تشبيه‏.‏ وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له‏:‏ من غير إثبات صفات‏!‏ فصار معنى التشبيه‏.‏ وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له‏:‏ من غير إثبات صفات‏!‏ فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما‏.‏

مثلاً‏:‏ الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين، وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن‏.‏

وكذلك السمع، فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن اصل وجود السمع المشترك‏.‏

فإذا قلنا‏:‏ من غير تشبيه‏.‏ ونفينا مطلق التشبيه، صار في هذا إشكال‏.‏

وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما الفرق بين التكييف والتمثيل‏؟‏

فالجواب‏:‏ الفرق بينهما من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذلك الصفة غير مقيدة بمماثل، مثل أن تقول‏:‏ كيفية يد فلا كذا وكذا‏.‏

وعلى هذا نقول‏:‏ كل ممثل مكيف، ولا عكس‏.‏

الثاني‏:‏ أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏، أي‏:‏ في العدد‏.‏

بل يؤمن بأن الله سبحانه ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ أي‏:‏ يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقراراً وتصديقاً بأن الله ليس كمثله شيء، كما قال عن نفسه‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال، لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال‏:‏ التخلية قبل التحلية‏.‏ فنفي العيوب يبدأ به أولاً، ثم يذكر إثبات الكمال‏.‏

وكلمة ‏{‏شيء‏}‏ نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبداً عز وجل أي مخلوق وإن عظم، فليس مماثلاً لله عز وجل، لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصاً، كما قيل‏:‏

ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

فهنا لو قلنا‏:‏ إن لله مثيلاً، لزم من ذلك تنقص الله عز وجل، فلهذا نقول‏:‏ نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين، لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب، لأن المخلوق ناقص، وتمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصاً، إلا إذا كان في مقام التحدي، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خير أما يشركون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 59‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل أأنتم أعلم أم الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 140‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏‏:‏ رد صريح على الممثلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل‏.‏

وحجة هؤلاء يقولون‏:‏ إن القرآن عربي، وإذا كان عربياً، فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال‏:‏ إن له وجهاً وإن له عيناً، وإن له يدين‏.‏‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما تشاهد، وعلى هذا، فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلاً لمدلولها بالنسبة للمخلوقات‏:‏ يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا، فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلاً‏.‏

ولا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق ما بيان أن الله ليس له مثيل ونقول‏:‏ إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد، فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة‍‏.‏

هذا وهو في المخلوقات، فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق‏؟‏‍ فإن التباين يكون أظهر وأجلى‏.‏

وعلى هذا، فيكون قول هؤلاء الممثلة مردوداً بالعقل كما أنه مردود بالسمع‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو السميع البصير‏}‏، فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر، لبيان كمال، ونقص الأصنام التي تعبد من دونه، فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا، ما استجابوا، ولا يبصرون، كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يدعون دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ‏(‏20‏)‏ أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20-21‏]‏، فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك، ما استجابوا‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله، لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وإيمان الإنسان بذلك يثمر للعبد أن يعظمه غاية التعظيم، لأنه ليس مثله أحد من المخلوقات، فتعظم هذا الرب العظيم الذي لا يماثله أحد، وإلا، لم يكن هناك فائدة من إيمانك بأنه ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏‏.‏

إذا آمنت بأنه سميع، فإنك سوف تحترز عن كل قول يغضب الله، لأنك تؤمن بأنه سميع، وإذا لم يحدث لك هذا الإيمان هذا الشيء، فاعلم أن إيمانك بأن الله سميع إيمان ناقص بلا شك‏.‏

إذا آمنت بأن الله سميع، فلن تتكلم إلا بما يرضيه ولا سيما إذا كنت تتكلم معبراً عن شرعه، وهو المفتي والمعلم، فإن هذا أشد، والله سبحانه يقول ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏، فإن هذا من أظلم الظلم ولهذا قال ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وهذا من عقوبه من يفتي بلا علم، أنه لا يهدى، لأنه ظالم‏.‏

فحذار يا أخي المسلم أن تقول قولاً لا يرضي الله، سواء قلته على الله، أو على غير هذا الوجه‏.‏

وثمرة الإيمان بأن الله بصير أن لا تفعل شيئاً يغضب الله، لأنك تعلم أنك لو تنظر نظرة محرمة لا يفهم الناس أنها نظرة محرمة، فإن الله تعالى يرى هذه النظرة، ويعلم ما في قلبك، ‏{‏يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏‏.‏

إذا آمنت بهذا، لا يمكن أن تفعل فعلاً لا يرضاه أبداً‏.‏

استحي من الله كما تستحيي من أقرب الناس إليك وأشدهم تعظيماً منك‏.‏

إذاً، إذا آمنا بأن الله بصير، فسوف نتحاشى كل فعل يكون سبباً لغضب الله عز وجل، وإلا، فإن إيماننا بذلك ناقص‏.‏ لو أن أحداً أشر بأصبعه أو شفته أو بعينه أو برأسه لأمر محرم، فالناس الذين حوله لا يعلمون عنه، لكن الله تعالى يراه، فليحذر هذا من يؤمن به، ولو أننا نؤمن بما تقتضيه أسماء الله وصفاته، لوجدت الاستقامة كاملة فينا فالله المستعان‏.‏

فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏، أي‏:‏ لا ينفي أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه، لأنهم متبعون للنص نفياً وإثباتاً، فكل ما وصف الله به نفسه يثبتونه على حقيقته، فلا ينفون عن الله ما وصف الله به نفسه، سواء كان من الصفات الذاتية أو الفعلية ‏(‏أو الخبرية‏)‏‏.‏

الصفات الذاتية، كالحياة والقدرة، والعلم‏.‏‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك، وتنقسم إلى‏:‏ ذاتية معنوية، وذاتية خبرية، وهي التي مسماها أبعاض لنا وأجزاء، كاليد والوجه، والعين، فهذه يسميها العلماء‏:‏ ذاتية خبرية، ذاتية‏:‏ لأنها لا تنفصل ولم يزل الله ولا يزال متصفاً بها‏.‏ خبرية‏:‏ لأنه متلقاة بالخبر، فالعقل لا يدل على ذلك، لولا أن الله أخبرنا أن له يداً، ما علمنا بذلك، لكنه أخبرنا بذلك، بخلاف العلم والسمع والبصر، فإن هذا ندركه بعقولنا مع دلالة السمع، لهذا نقول في مثل هذه الصفات اليد والوجه وما أشبهها‏:‏ إنها ذاتية خبرية، ولا تقول‏:‏ أجزاء وأبعاض، بل نتاحشى هذا اللفظ لكن مسماها لنا أجزاء وأبعاض، لأن الجزء والبعض ما جاز انفصاله عن الكل، فالرب عز وجل لا يتصور أن شيئاً من هذه الصفات التي وصف بها نفسه ـ كاليد ـ أن تزول أبداً، لأنه موصوف بها أزلاً وأبداً ولهذا لا نقول‏:‏ إنه أبعاض وأجزاء‏.‏

والصفات الفعلية‏:‏ هي المتعلقة بمشيئته إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وقد ذكرنا أن هذه الصفات الفعلية‏:‏ منها ما يكون له سبب، ومنها ما ليس له سبب ومنها ما يكون ذاتياً فعلياً‏.‏

ولا يحرفون الكلم عن مواضعه‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏(‏الكلم‏)‏‏:‏ اسم، جمع كلمة ويراد به كلام الله وكلام رسوله‏.‏

لا يحرفونه عن مواضعه، أي‏:‏ عن مدلولاته، فمثلاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏، يقولون‏:‏ هي يد حقيقية ثابتة لله من غير تكييف ولا تمثيل‏.‏ والمحرفون يقولون‏:‏ قوته، أو نعمته أما أهل السنة، فيقولون‏:‏ القوة شيء واليد شيء آخر، والنعمة شيء واليد شيء آخر، فهم لا يحرفون الكلم عن مواضعه، فإن التحريف من دأب اليهود، ‏{‏من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏، فكل من حرف نصوص الكتاب والسنة، ففيه شبه من اليهود، فأحذر هذا، ولا تتشبه بالمغضوب عليهم الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لا تحرف، بل فسر الكلام على ما أراد الله ورسوله‏.‏

ومن كلام الشافعي ما يذكر عنه‏:‏ ‏"‏آمنت بالله وبما جاء عن الله 7على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله‏"‏‏.‏

ولا يلحدون في أسماء الله وآياته‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ قوله‏:‏ ‏"‏ولا يلحدون‏"‏ أي‏:‏ أهل السنة والجماعة‏.‏

والإلحاد في اللغة‏:‏ الميل، ومنه سمي اللحد في القبر، لأنه مائل إلى جانب منه وليس متوسطاً والمتوسط يسمى شقاً واللحد أفضل من الشق‏.‏

فهم لا يلحدون في أسماء الله، ولا يلحدون أيضاً في آيات الله، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الإلحاد يكون في موضعين‏:‏ في الأسماء وفي الآيات‏.‏

هذا الذي يفيده كلام المؤلف قد دل عليه القرآن قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏، فأثبت الله الإلحاد في الأسماء، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏، فأثبت الله الإلحاد في الآيات‏.‏

- فالإلحاد في الأسماء هو الميل فيها عما يجب، وهو أنواع‏:‏

النوع الأول‏:‏ أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كم سماه الفلاسفة علة فاعلة وسماه النصارى‏:‏ أباً، وعيسى‏:‏ الابن، فهذا إلحاد في الأسماء الله وكذلك لو سمى الله بأي اسم لم يسم به نفسه، فهو ملحد في أسماء الله‏.‏

ووجه ذلك أن أسماء الله عز وجل توقيفية، فلا يمكن أن نثبت له إلا ما ثبت بالنص، فإذا سميت الله بما لم يسم به نفسه، فقد ألحدت وملت عن الواجب‏.‏

وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقة، لأنه لو أن أحداً دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق‏؟‏‏!‏

إذاً، ليس لك حق أن تسمي الله بما لم يسم به نفسه، فإن فعلت، فأنت ملحد في أسماء الله‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن ينكر شيئاً من أسمائه، عكس الأول، فالأول سمى الله بما لم يسم به نفسه، وهذا جرد الله مما سمى به نفسه، فينكر الاسم، سواء أنكر كل الأسماء أو بعضها التي تثبت لله، فإذا أنكرها، فقد ألحد فيها‏.‏

ووجه الإلحاد فيها‏:‏ أنه لما أثبتها الله لنفسه، وجب علينا أن نثبتها له، فإذا نفيناها، كان إلحاداً وميلاً بها عما يجب فيها‏.‏

وهناك من الناس من أنكر الأسماء، كغلاة الجهمية، فقالوا‏:‏ ليس لله اسم أبداً‏!‏ قالوا‏:‏ لأنك لو أثبت له اسماً، شبهته بالموجودات، وهذا معروف أنه باطل مردود‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أن ينكر ما دلت عليه من الصفات، فهو يثبت الاسم، لكن ينكر الصفة التي يتضمنها هذا الاسم، مثل أن يقول‏:‏ إن الله سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، وخالق بلا خلق، وقادر بلا قدرة‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا معروف عن المعتزلة، وهو غير معقول‏!‏

ثم هؤلاء يجعلون الأسماء أعلاماً محضة متغايرة، فيقولوا‏:‏ السميع غير العلم، لكنها كلن ليس لها معنى‏!‏ السميع لا يدل على السمع‏!‏ والعليم لا يدل على العلم‏!‏ لكن مجرد أعلام‏!‏‏!‏

ومنهم آخرون يقولون‏:‏ هذه الأسماء شيء واحد، فهي عليم وسميع وبصير كلها واحد، لا تختلف إلا بتركيب الحروف فقط، فيجعل الأسماء شيئاً واحداً‏!‏‏!‏

وكل هذا غير معقول، ولذلك نحن نقول‏:‏ إنه لا يمكن الإيمان بالأسماء حتى تثبت ما تضمنته من الصفات‏.‏

ولعلنا من هنا نتكلم على دلالة الاسم، فالاسم له أنواع ثلاثة في الدلالة‏:‏ دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام‏:‏

1- فدلالة المطابقة‏:‏ دلالة اللفظ على جميع مدلوله، وعلى هذا، فكل اسم دال على المسمى به، وهو الله، وعلى الصفة المشتق منها هذا الاسم‏.‏

2- ودلالة التضمن‏:‏ دلالة اللفظ على بعض مدلوله، وعلى هذا، فدلالة الاسم على الذات وحدها أو على الصفة وحدها من دلالة التضمن‏.‏

3- ودلالة الالتزام‏:‏ دلالته على شيء يفهم لا من لفظ الاسم لكن من لازمه ولهذا سميناه‏:‏ دلالة الالتزام‏.‏

مثل كلمة الخالق‏:‏ اسم يدل على ذات الله ويدل على صفة الخلق‏.‏

إذاً، فباعتبار دلالته على الأمرين يسمى دلالة مطابقة، لأن اللفظ دل على جميع مدلوله، ولا شك أنك إذا قلت‏:‏ الخالق، فإنك تفهم خالقاً وخلقاً‏.‏

- وباعتبار دلالته على الخالق وحده أو على الخلق وحده يسمى دلالة تضمن، لأنه دل على بعض معناه، وباعتبار دلالته على العلم والقدرة يسمى دلالة التزام، إذ لا يمكن خلق إلا بعلم وقدرة، فدلالته على القدرة والعلم دلالة التزام‏.‏

وحينئذ، يتبين أن الإنسان إذا أنكر واحداً من هذه الدلالة، فهو ملحد في الأسماء‏.‏

ولو قال‏:‏ أنا أؤمن بدلالة الخالق على الذات، ولا أؤمن بدلالته على الصفة، فهو ملحد في الاسم‏.‏

لو قال‏:‏ أنا أؤمن بأن ‏(‏الخالق‏)‏ تدل على ذات الله وعلى صفة الخلق، لكن لا تدل على صفة العلم والقدرة‏.‏ قلنا‏:‏ هذا إلحاد أيضاً، فلازم علينا أن نثبت كل ما دل عليه هذا الاسم، فإنكار شيء مما دل على الاسم من الصفة إلحاد في الاسم سواء كانت دلالته على هذه الصفة دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام‏.‏

ولنضرب مثلاً حسياً تتبين فيه أنواع هذه الدلالات‏:‏ لو قلت‏:‏ لي بيت‏.‏ فكلمة ‏(‏بيت‏)‏ فيها الدلالات الثلاث، فتفهم من ‏(‏بيت‏)‏ أنها تدل على كل البيت دلالة مطابقة‏.‏ وتدل على مجلس الرجال وحده، وعلى الحمامات وحدها، وعلى الصالة وحدها، دلالة تضمن، لأن هذه الأشياء جزء من البيت ودلالة اللفظ على جزء معناه دلالة تضمن‏.‏ وتدل على أن هناك بانياً بناه دلالة التزام، لأنه ما من بيت، إلا وله بان‏.‏

النوع الرابع من أنواع الإلحاد في الأسماء‏:‏ أن يثبت الأسماء لله والصفات، لكن يجعلها دالة على التمثيل، أي دالة على بصر كبصرنا وعلم كعلمنا، ومغفرة كمغفرتنا‏.‏‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك، فهذا إلحاد، لأنه ميل بها عما يجب فيها، إذ الواجب إثباتها بلا تمثيل‏.‏

النوع الخامس‏:‏ أن ينقلها إلى المعبودات، أو يشتق أسماء منها للمعبودات، مثل أن يسمي شيئاً معبوداً بالإله، فهذا إلحاد، أو يشتق منها أسماء للمعبودات مثل‏:‏ اللات من الإله، والعزى والعزيز، ومناة من المنان، فنقول‏:‏ هذا أيضاً إلحاد في أسماء الله، لأن الواجب عليك أن تجعل أسماء الله خاصة به، ولا تتعدى وتتجاوز فتشتق للمعبودات منها أسماء‏.‏ هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله‏.‏

فأهل السنة والجماعة لا يلحدون في أسماء الله أبداً بل يجرونها على ما أراد الله بها سبحانه وتعالى ويثبتون لها جميع أنواع الدلالات، لأنهم يرون أن ما خالف ذلك، فهو إلحاد‏.‏

- وأما الإلحاد في آيات الله تعالى، فالآيات جمع آية، وهي العلامة المميزة للشيء عن غيره، والله عز وجل بعث الرسل بالآيات لا بالمعجزات، لهذا كان التعبير بالآيات أحسن من التعبير بالمعجزات‏:‏

أولاً‏:‏ لأن الآيات هي التي يعبر بها في الكتاب والسنة‏.‏

ثانياً‏:‏ أن المعجزات قد تقع من ساحر ومشعوذ وما أشبه ذلك تعجز غيره‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن كلمة ‏(‏آيات‏)‏ أدل على المعنى المقصود من كلمة معجزات، فآيات الله عز وجل هي الدالة على الله عز وجل، وحينئذ تكون خاصة به ولولا أنها خاصة، ما صارت آية له‏.‏

وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين‏:‏ آيات كونية، وآيات شرعية‏:‏

فالآيات الكونية‏:‏ ما يتعلق بالخلق والتكوين، مثال ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ‏(‏22‏)‏ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ‏(‏23‏)‏ ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏(‏24‏)‏ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذ دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 22-25‏]‏، فهذه الآيات كونية وإن شئت، فقل‏:‏ كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلاً‏:‏ لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية‏.‏

والإلحاد فيها أن ينسبها إلى غير الله استقلالاً أو مشاركة أو إعانة، فيقول‏:‏ هذا من الولي الفلاني، أو‏:‏ من النبي الفلاني، أو‏:‏ شارك فيه النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو‏:‏ أعان الله فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏، فنفى كل شيء يتعلق به المشركون بكون معبوداتهم لا تملك شيئاً في السماوات والأرض استقلالاً أو مشاركة ولا معينة لله عز وجل، ثم بالرابع‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏، لما كان المشركون قد يقولون‏:‏ نعم، هذه الأصنام لا تملك ولا تشارك ولم تعاون، لكنها شفعاء، قال‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏، فقطع كل سبب يتعلق به المشركون‏.‏

القسم الثاني من الآيات‏:‏ الآيات الشرعية، وهي ما جاءت به الرسل من الوحي، كالقرآن العظيم وهو آيه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 252‏]‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين‏(‏50‏)‏ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50-51‏]‏، فجعله آيات‏.‏

ويكون الإلحاد فيها إما بتكذيبها أو تحريفها أو مخالفتها‏:‏ فتكذيبها‏:‏ أن يقول‏:‏ ليست من عند الله، فيكذب بها أصلاً، أو يكذب بما جاء فيها من الخبر مع تصديقه بالأصل، فيقول مثلاً‏:‏ قصة أصحاب الكهف ليست صحيحة، وقصة أصحاب الفيل ليست صحيحة والله لم يرسل عليهم طيراً أبابيل‏.‏

وأما التحريف، فهو تغيير لفظها، أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله، مثل أن يقول‏:‏ استوى على العرش، أي‏:‏ استولى، أو‏:‏ ينزل إلى السماء الدنيا، أي‏:‏ ينزل أمره‏.‏

وأما مخالفتها، فبترك الأوامر أو فعل النواهي‏.‏

قال الله تعالى في المسجد الحرام‏:‏ ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب آليم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏، فكل المعاصي إلحاد في الآيات الشرعية، لأنه خروج بها عما يجب لها، إذ الواجب علينا أن نتمثل الأوامر وأن نجتنب النواهي، فإن لم نقم بذلك، فهذا إلحاد‏.‏

ولا يكيفون‏(‏1‏)‏ ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه‏(‏2‏)‏ لأنه سبحانه‏(‏3‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ أي‏:‏ أهل السنة والجماعة، وسبق أن التكييف ذكر كيفية الصفة، سواء ذكرتها بلسانك أو بقلبك، فأهل السنة والجماعة لا يكيفون أبداً، يعنى‏:‏ لا يقولون‏:‏ كيفية يده كذا وكذا، ولا‏:‏ كيفية وجهه كذا وكذا، فلا يكيفون هذا باللسان ولا بالقلب أيضاً، يعني‏:‏ نفس الإنسان لا يتصور كيف استوى الله عز وجل، أو كيف ينزل، أو كيف وجهه، أو كيف يده، ولا يجوز أن يحاول ذلك أيضاً، لأن هذا يؤدي إلى أحد أمرين‏:‏ إما التمثيل، وإما التعطيل‏.‏

ولهذا لا يجوز للإنسان أن يحاول معرفة كيفية استواء الله على العرش، أو يقوله بلسانه، بل ولا يسأل عن الكيفية، لأن الإمام مالكاً رحمه الله قال‏:‏ ‏"‏السؤال عن بدعة‏"‏، لا تقل‏:‏ كيف استوى‏؟‏ كيف ينزل‏؟‏ كيف يأتي‏؟‏ كيف وجهه‏؟‏ إن فعلت ذلك، قلنا‏:‏ إنك مبتدع‏.‏‏.‏ وقد سبق ذكر الدليل على تحريم التكييف، وذكرنا الدليل على ذلك من السمع والعقل‏.‏

‏(‏2‏)‏ ‏"‏ولا يمثلون‏"‏، أي‏:‏ أهل السنة والجماعة‏:‏ ‏"‏صفاته بصفات خلقه‏"‏، وهذا معنى قوله فيما سبق‏:‏ ‏"‏من غير تمثيل‏"‏ وسبق لنا امتناع التمثيل سمعاً وعقلاً، وأن السمع ورد خبراً وطلباً في نفي التمثيل، فهم لا يكيفون ولا يمثلون‏.‏

‏(‏3‏)‏ ‏(‏سبحان‏)‏‏:‏ اسم مصدر سبح والمصدر تسبيح، فـ ‏(‏سبحان‏)‏ بمعنى تسبيح، لكنها بغير اللفظ، وكل ما دل على معنى المصدر وليس بلفظه، فهو اسم مصدر، كـ ‏:‏ سبحان من سبح، وكلام من كلم وسلام من سلم، وإعرابها مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، وعاملها محذوف دائماً‏.‏

ومعنى ‏(‏سبح‏)‏، قال العلماء‏:‏ معناها‏:‏ نزه، أصلها من السبح وهو البعد، كأنك تبعد صفات النقص عن الله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص‏.‏

لا سمي له‏(‏1‏)‏، ولا كفء له‏(‏2‏)‏، ولا ند له‏(‏3‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ دليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏‏:‏ ‏{‏هل‏}‏ استفهام، لكنه بمعنى النفي ويأتي النفي بصيغة الاستفهام لفائدة عظيمة، وهي التحدي، لأن هناك فرقاً بين أن أقول‏:‏ لا سمي له، و‏:‏ ‏{‏هل تعلم له سمياً‏}‏، لأن ‏{‏هل تعلم له سمياً‏}‏ متضمن للنفي وللتحدي أيضاً، مشرب معنى التحدي، وهذه قاعدة مهمة‏:‏ كلما كان الاستفهام بمعنى النفي، فهو مشرب معنى التحدي، كأني أقول‏:‏ إن كنت صادقاً، فأتني بسمي له وعلى هذا، فـ ‏{‏هل تعلم له سمياً‏}‏‏:‏ أبلغ من‏:‏ ‏"‏سمي له‏"‏‏.‏

والسمي‏:‏ هو المسامي، أي‏:‏ المماثل‏.‏

‏(‏2‏)‏ الدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏‏.‏

‏(‏3‏)‏ الدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً وأنت تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏، أي‏:‏ تعلمون أنه لا ند له والند بمعنى النظيري‏.‏

وهذه الثلاثة ـ السمي والكفء والند ـ معناها متقارب جداً، لأن معنى الكفء‏:‏ الذي يكافئه، ولا يكفائ الشيء الشيء إلا إذا كان مثله، فإن لم يكن مثله، لم يكن مكافئاً، إذاً‏:‏ لا كفء له، أي‏:‏ ليس له مثيل سبحانه وتعالى‏.‏

وهذا النفي المقصود منه كمال صفاته، لأنه لكما صفاته لا أحد يماثله‏.‏

ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قياس شمول، وقياس تمثيل، وقياس أولوية، فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول‏:‏

1- قياس الشمول‏:‏ هو ما يعرف بالعام الشامل لجميع أفراده، بحيث يكون كل فرد منه داخلاً في مسمى ذلك اللفظ ومعناه، فمثلاً‏:‏ إذا قلنا‏:‏ الحياة، فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق من أجل أن الكل يشمله اسم ‏(‏حي‏)‏‏.‏

2- وقياس التمثيل‏:‏ هو أن يلحق الشيء مثيله فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق‏.‏

3- وقياس الأولوية‏:‏ هو أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل، ولهذا يقول العلماء‏:‏ إنه مستعمل في حق الله، لقوله تعالى ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 60‏]‏، بمعنى كل صفة كمال، فلله تعالى أعلاها، والسمع والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوقات، لكن لله أعلاها وأكملها‏.‏

ولهذا أحياناً نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى، فمثلاً‏:‏ نقول‏:‏ العلو صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فهو في الخالق من باب أولى وهذا دائماً نجده في كلام العلماء‏.‏

فقول المؤلف رحمه الله‏:‏ ‏"‏ولا يقاس بخلقه‏"‏، بعد قوله‏:‏ ‏"‏لا سمي ولا كفء له، ولا ند له‏"‏، يعني القياس المقتضي للمساواة وهو قياس الشمول وقياس التمثيل‏.‏

إذاً، يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما، وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز، أو الجائز على الواجب، ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى‏.‏

لو قال لك قائل‏:‏ الله موجود، والإنسان موجود، ووجود الله كوجود الإنسان بالقياس‏.‏

فنقول‏:‏ لا يصح، لأن وجود الخالق واجب، ووجود الإنسان ممكن‏.‏

فلو قال‏:‏ أقيس سمع الخالق على سمع المخلوق‏.‏

نقول‏:‏ لا يمكن، سمع الخالق واجب له، لا يعتريه نقص، وهو شامل لكل شيء، وسمع الإنسان ممكن، إذ يجوز أن يولد الإنسان أصم، والمولود سميعاً يلحقه نقص السمع، وسمعه محدود‏.‏

إذاً، لا يمكن أن يقاس الله بخلقه، فكل صفات الله لايمكن أن تقاس بصفات خلقه، لظهور التباين العظيم بين الخالق وبين المخلوق‏.‏

فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ قال المؤلف هذا تمهيداً وتوطئة لوجوب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه الخبر إذا اجتمعت فيه أوصاف أربعة‏:‏

الأول‏:‏ أن يكون صادراً عن علم، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏"‏فإنه أعلم بنفسه وبغيره‏"‏‏.‏

الثاني‏:‏ الصدق، وأشار إليه بقوله‏:‏ ‏"‏وأصدق قيلاً‏"‏‏.‏

الوصف الثالث‏:‏ البيان والفصاحة، وأشار إليه بقوله‏:‏ ‏"‏وأحسن حديثاً‏"‏‏.‏

الوصف الرابع‏:‏ سلامة القصد والإرادة، بأن يريد المخبر هداية من أخبرهم‏.‏

فدليل الأول ـ وهو العلم ـ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فصلنا بعض النبيين على بعض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏، فهو أعلم بنفسه وبغيره من غيره، فهو أعلم بك من نفسك، لأنه يعلم ما سيكون لك في المستقبل، وأنت لا تعلم ماذا تكسب غداً‏؟‏

وكلمة ‏{‏أعلم‏}‏ هنا اسم تفضيل، وهو يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه، وهذا لا يجوز بالنسبة لله، لكن ‏(‏عالم‏)‏ اسم فاعل وليس فيه مقارنة ولا تفضيل‏.‏

فنقول له‏:‏ هذا غلط، فالله يعبر عن نفسه ويقول‏:‏ ‏{‏أعلم‏}‏ وأنت تقولك عالم‏!‏ وإذا فسرنا ‏{‏أعلم‏}‏ بـ‏(‏عالم‏)‏، فقد حططنا من قدر علم الله، لأن ‏(‏عالم‏)‏ يشترك فيه غير الله على سبيل المساواة، لكن ‏{‏أعلم‏}‏ مقتضاه أن لا يساويه أحد في هذا العلم، فهو أعلم من كل عالم، وهذا أكمل في الصفة بلا شك‏.‏

ونقول له‏:‏ إن اللغة العربية بالنسبة لاسم الفاعل لا تمنع المساواة في الوصف، لكن بالنسبة لاسم التفضيل تمنع المشاركة فيما دل عليه‏.‏

ونقول أيضاً‏:‏ في باب المقارنة لا بأس أن نقول‏:‏ أعلم، بمعنى‏:‏ أن تأتي باسم التفضيل، ولو فرض خلو المفضل عليه من ذلك المعنى، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏، فجاء باسم التفضيل، مع أن المفضل عليه ليس فيه خير، وقال يوسف‏:‏ ‏{‏أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏، والأرباب ليس فيها خير‏.‏

فالحاصل أن نقول‏:‏ إن ‏{‏أعلم‏}‏ الواردة في كتاب الله يراد بها معناها الحقيقي، ومن فسرها بـ‏(‏عالم‏)‏، فقد أخطأ من حيث المعنى ومن حيث اللغة العربية‏.‏

ودليل الوصف الثاني ـ الصدق ـ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من الله قيلاً‏}‏، أي‏:‏ لا أحد أصدق منه، والصدق مطابقة الكلام للواقع، ولا شيء من الكلام يطابق الواقع كما يطابقه كلام الله سبحانه وتعالى، فكل ما أخبر الله به، فهو صدق، بل أصدق من كل قول‏.‏

ودليل الوصف الثالث ـ البيان والفصاحة ـ‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من الله حديثاً‏}‏ وحسن حديثه يتضمن الحسن اللفظي والمعنوي‏.‏

ودليل الوصف الرابع ـ سلامة القصد والإرادة ـ‏:‏ قوله تعالى‏:‏

{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏، ‏{‏يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فاجتمع في كلام الله الأوصاف الأربعة التي توجب قبول الخبر‏.‏

وإذا كان كذلك، فإنه يجب أن نقبل كلامه على ما هو عليه، وأن لا يلحقنا شك في مدلوله، لأن الله لم يتكلم بهذا الكلام لأجل إضلال الخلق، بل ليبين لهم ويهديهم، وصدر كلام الله عن نفسه أو عن غيره من أعلم القائلين، ولا يمكن أن يعتريه خلاف الصدق، ولا يمكن أن يكون كلاماً عيياً غير فصيح، وكلام الله لو اجتمعت هذه الأمور الأربعة في الكلام، وجب عل المخاطب القبول بما دل عليه‏.‏

مثال ذلك‏:‏ قوله تعالى مخاطباً إبليس‏:‏ ‏{‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، قال قائل‏:‏ في هذه الآية إثبات يدين لله عز وجل يخلق بهما من شاء فنثبتهما، لأن كلام الله عزوجل صادر عن علم وصدق، وكلامه أحسن الكلام وأفصحه وأبينه، ولا يمكن أن لا يكون له يدان لكن أراد من الناس أن يعتقدوا ذلك فيه، ولو فرض هذا، لكان مقتضاه أن القرآن ضلال، حيث جاء بوصف الله بما ليس فيه، وهذا ممتنع، فإذا كان كذلك، وجب عليك أن تؤمن بأن لله تعالى يدين اثنتين خلق بهما آدم‏.‏

وإذا قلت‏:‏ المراد بهما النعمة أو القدرة‏.‏

قلنا‏:‏ لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، إلا إذا اجترأت على ربك ووصفت كلامه بضد الأوصاف الأربعة التي قلنا، فنقول‏:‏ هل الله عز وجل حينما قال‏:‏ ‏{‏بيدي‏}‏‏:‏ عالم بأن له يدين‏؟‏ فسيقول‏:‏ هو عالم‏.‏ فنقول‏:‏ هل هو صادق‏؟‏ فسيقول‏:‏ هو صادق بلا شك‏.‏ ولا يستطيع أن يقول‏:‏ هو غير عالم، أو‏:‏ غير صادق، ولا أن يقول‏:‏ عبر بهما وهو يريد غيرهما عياً وعجزاً، ولا أن يقول‏:‏ أراد من خلقه أن يؤمنوا بما ليس فيه من الصفات إضلالاً لهم‏!‏ فنقول له‏:‏ إذاً، ما الذي يمنعك أن تثبت لله اليدين‏؟‏‏!‏ فاستغفر ربك وتب إليه، وقل‏:‏ آمنت بما أخبر الله به عن نفسه، لأنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من غيره وأتم إرادة من غيره أيضاً‏.‏

ولهذا أتى المؤلف رحمه الله بهذه الأوصاف الثلاثة ونحن زدنا الوصف الرابع، وهو‏:‏ إرادة البيان للخلق وإرادة الهداية لهم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

هذا حكم ما أخبر الله به عن نفسه بكلامه الذي هو جامع للكمالات الأربع في الكلام، أما ما أخبرت به الرسل فقال المؤلف‏:‏ ‏"‏ثم رسله صادقون مصدقون‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

ثم رسله صادقون‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الصادق‏:‏ المخبر بما طابق الواقع، فكل الرسل صادقون فيما أخبروا به ولكن‏:‏ لابد أن يثبت السند إلى الرسل عليهم السلام، فإذا قالت اليهود‏:‏ قال موسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة سنده إلى موسى‏.‏ وإذا قالت النصارى‏:‏ قال عيسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعم صحة السند إلى عيسى‏.‏ وإذا قال قائل‏:‏ قال محمد رسول الله كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى محمد‏.‏

فرسله صادقون فيما يقولون، فكل ما يخبرون به عن الله وعن غيره من مخلوقاته، فهم صادقون فيه، لا يكذبون أبداً‏.‏

ولهذا أجمع العلماء على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكذب‏.‏

مصدوقون‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏"‏مصدقون‏"‏ أو ‏:‏ ‏"‏مصدقون‏"‏‏:‏ نسختان‏:‏ أما على نسخة ‏"‏مصدوقون‏"‏، فالمعنى أن ما أوحي إليهم، فهو صدق، والمصدوق‏:‏ الذي أخبر بالصدق والصادق‏:‏ الذي جاء بالصدق، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة حين قال له الشيطان‏:‏ إنك إذا قرأت آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى قال له‏:‏ ‏(‏صدقك وهو كذوب‏)‏(7)‏، يعني‏:‏ أخبرك بالصدق‏.‏ فالرسل مصدوقون، كل ما أوحي إليهم، فهو صدق، ما كذبهم الذي أرسلهم ولا كذبهم الذي أرسل إليهم، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، ‏{‏إنه لقول رسول كريم ‏(‏19‏)‏ ذي قوة عند ذي العرش مكين ‏(‏20‏)‏ مطاع ثم أمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19-21‏]‏‏.‏

وأما على نسخة‏:‏ ‏(‏مصدقون‏(‏، فالمعنى أنه يجب على أممهم تصديقهم، وعلى هذا يكون معنى ‏"‏مصدقون‏"‏، أي‏:‏ شرعاً، يعني‏:‏ يجب أن يصدقوا شرعاً، فمن كذب بالرسل أو كذبهم، فهو كافر، ويجوز أن يكون ‏"‏مصدقون‏"‏ له وجه آخر، أي‏:‏ أن الله تعالى صدقهم، ومعلوم أن الله تعالى صدق الرسل، صدقهم بقوله وبفعله‏:‏

أما بقوله‏:‏ فإن الله قال لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏، ‏{‏والله يعلم إنك لرسوله‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏، فهذا تصديق بالقول‏.‏

أما تصديقه بالفعل، فبالتمكين له، وإظهار الآيات، فهو يأتي للناس يدعوهم إلا الإسلام، فإن لم يقبلوا، فالجزية، فإن لم يقبلوا، استباح دمائهم ونساءهم وأموالهم، والله تعالى يمكن له، ويفتح عليه الأرض أرضاً بعد أرض، وحتى بلغت رسالته مشارق الأرض ومغاربها، فهذا تصديق من الله بالفعل، كذلك أيضاً ما يجريه الله على يديه من الآيات هو تصديق له سواء كانت الآيات شرعية أم كونية، فالشرعية كان دائماً يسأل عن الشيء وهو لا يعلمه، فينزل الله الجواب‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ (8) ، إذاً هذا تصديق بأنه رسول ولو كان غير رسول، ما أجاب الله ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏ فالجواب‏:‏ ‏{‏قل قتال فيه‏}‏‏.‏‏.‏ إلخ، فهذا تصديق من الله عز وجل‏.‏

والآيات الكونية ظاهرة جداً وما أكثر الآيات الكونية التي أيد الله بها رسوله، سواء جاءت لسبب أو لغير سبب، وهذا معروف في السيرة‏.‏

ففهمنا من كلمة‏:‏ ‏"‏مصدقون‏"‏‏:‏ أنهم مصدقون من قبل الله بالآيات الكونية والشرعية، مصدقون من قبل الخلق، أي‏:‏ يجب أن يصدقوا وإنما حملنا ذلك على التصديق شرعاً، لأن من الناس من صدق ومن الناس من لم يصدق، لكن الواجب التصديق‏.‏

بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ فهؤلاء كاذبون أو ضالون، لأنهم قالوا مالا يعلمون‏.‏

وكأن المؤلف يشير إلى أهل التحريف، لأن أهل التحريف قالوا على الله مالا يعلمون من وجهين‏:‏ قالوا‏:‏ إنه لم يرد كذا وأراد كذا‏!‏ فقالوا في السلب والإيجاب لما لا يعلمون‏.‏

مثلاً‏:‏ قالوا‏:‏ لم يرد بالوجه الحقيقي‏!‏ فهنا قالوا على الله مالا يعلمون بالسلب، ثم قالوا‏:‏ والمراد بالوجه الثواب‏!‏ فقالوا على الله ملا يعلمون في الإيجاب‏.‏

وهؤلاء الذين يقولون على الله مالا يعلمون لا يكونون صادقين ولا مصدوقين ولا مصدقين بل قامت الأدلة على أنهم كاذبون مكذوبون بما أوحى إليهم الشيطان‏.‏

ولهذا‏(‏1‏)‏ قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سبحان‏(‏2‏)‏ ربك‏(‏3‏)‏ رب العزة‏(‏4‏)‏ عما يصفون‏(‏5‏)‏ وسلام على المرسلين‏(‏6‏)‏ والحمد لله

رب العالمين‏(‏7‏)‏‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ أي‏:‏ لأجل كمال كلامه وكلام رسله‏.‏

‏(‏2‏)‏ سبق معنى التسبيح وهو تنزيه الله عن كل ما لا يليق به‏.‏

‏(‏3‏)‏ أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية خاصة، من باب إضافة الخالق إلى المخلوق‏.‏

‏(‏4‏)‏ من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن المعروف أن كل مربوب مخلوق وهنا قال‏:‏ ‏"‏رب العزة‏"‏، وعزه الله غير مخلوقة، لأنها من صفاته، فنقول‏:‏ هذه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة وعلى هذا، فـ ‏"‏رب العزة‏"‏ هنا معناها‏:‏ صاحب العزة، كما يقال‏:‏ رب الدار، أي‏:‏ صاحب الدار‏.‏

‏(‏5‏)‏ يعني‏:‏ عما يصفه المشركون، كما سيذكره المؤلف‏.‏

‏(‏6‏)‏ أي‏:‏ على الرسل‏.‏

‏(‏7‏)‏ حمد الله نفسه عز وجل بعد أن نزهها، لأن في الحمد كمال الصفات، وفي التسبيح تنزيه عن العيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح، وإثبات الكمال بالحمد‏.‏

فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب‏(‏1‏)‏‏.‏ وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات‏(‏2‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ معنى هذه الجملة واضح، وبقي أن يقال‏:‏ وحمد نفسه لكمال صفاته بالنسبة لنفسه وبالنسبة لرسله، فإنه سبحانه محمود على كمال صفاته وعلى إرسال الرسل، لما في ذلك من رحمة الخلق والإحسان إليهم‏.‏

‏(‏2‏)‏ بين المؤلف رحمه الله في هذه الجملة أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، وذلك لأن تمام الكمال لا يكون إلا بثبوت صفات الكمال وانتفاء ما يضادها من صفات النقص، فأفادنا رحمه الله أن الصفات قسمان‏:‏

1- صفات مثبتة‏:‏ وتسمى عندهم‏:‏ الصفات الثبوتية‏.‏

2- وصفات منفية‏:‏ ويسمونها‏:‏ الصفات السلبية، من السلب وهو النفي، ولا حرج من أن نسميها سلبية، وإن كان بعض الناس توقف وقال‏:‏ لا نسميها سلبية، بل نقول‏:‏ منفية‏.‏

فنقول‏:‏ ما دام السلب في اللغة بمعنى النفي، فالاختلاف في اللفظ ولا يضر‏.‏

فصفات الله عز وجل قسمان‏:‏ ثبوتية وسلبية، أو إن شئت، فقل‏:‏ مثبتة ومنفية، والمعنى واحد‏.‏

فالمثبتة‏:‏ كل ما أثبته الله لنفسه، ولكها صفات كمال، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالاً على التمثيل، لأن المماثلة للمخلوق نقص‏.‏

وإذا فهمنا هذه القاعدة، عرفنا ضلال أهل التحريف، الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل، ثم أخذوا ينفونها فراراً من التمثيل‏.‏

ومثاله‏:‏ قالوا‏:‏ لو أثبتنا لله وجهاً، لزم أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين، وحينئذ يجب تأويل معناه إلى معنى آخر لا إلى الوجه الحقيقي‏.‏

فنقول لهم‏:‏ كل ما أثبت الله لنفسه من الصفات، فهو صفة كمال ولا يمكن أبداً أن يكون فيما أثبته الله لنفسه من الصفات نقص‏.‏

ولكن، إذا قال‏:‏ هل الصفات توقيفية كالأسماء، أو هي اجتهادية، لمعنى أن يصح لنا أن نصف الله سبحانه وتعالى بشيء لم يصف به نفسه‏؟‏‏.‏

فالجواب أن نقول‏:‏ إن الصفات توقيفية على المشهور عند أهل العلم، كالأسماء، فلا تصف الله إلا بما وصف به نفسه‏.‏

وحينئذ نقول‏:‏ الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ صفة كمال مطلق، وصفة كمال مقيد، وصفة نقص مطلق‏.‏

أما صفة الكمال على الإطلاق، فهي ثابتة لله عز وجل، كالمتكلم، والفعال لما يريد، والقادر‏.‏‏.‏ ونحو ذلك‏.‏

وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيداً، مثل‏:‏ المكر، والخداع، والاستهزاء‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول‏:‏ ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم تأت إلا مقيدة‏.‏

وأما صفة النقص على الإطلاق، فهذه لا يوصف الله بها بأي حال من الأحوال، كالعاجز والخائن والأعمى والأصم، لأنها نقص على الإطلاق، فلا يوصف الله بها وانظر إلى الفرق بين خادع وخائن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، فأثبت خداعه لمن خادعه لكن قال في الخيانة‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 71‏]‏ ولم يقل‏:‏ فخانهم، لأن الخيانة خداع في مقام الائتمان، والخداع في مقام الائتمان نقص، وليس فيه مدح أبداً‏.‏

فإذاً، صفات النقص منفية عن الله مطلقاً‏.‏

والصفات المأخوذة من الأسماء هي كمال بكل حال ويكون الله عز وجل قد أتصف بمدلولها، فالسمع صفة كمال دل عليها اسمه السميع، فكل صفة دلت عليها الأسماء، فهي صفة كمال مثبته لله على سبيل الإطلاق، وهذه تجعلها قسماً منفصلاً، لأنه ليس فيها تفصيل، وغيرها تنقسم إلى الأقسام الثلاثة التي سلف ذكرها، ولهذا لم يسم الله نفسه بالمتكلم مع أنه يتكلم، لأن الكلام قد يكون خيراً، وقد يكون شراً، وقد لا يكون خيراً ولا شراً، فالشر لا ينسب إلى الله، واللغو كذلك لا ينسب إلى الله، لأنه سفه، والخير ينسب إليه، ولهذا لم يسم نفسه بالمتكلم، لأن الأسماء كما وصفها الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولله الأسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏، ليس فيها أي شيء من النقص ولهذا جاءت باسم التفضيل المطلق‏.‏

إذا قال قائل‏:‏ فهمنا الصفات وأقسامها، فما هو الطريق لإثبات الصفة مادمنا نقول‏:‏ إن الصفات توقيفية‏؟‏

فنقول‏:‏ هناك عدة طرق لإثبات الصفة‏:‏

الطريق الأول‏:‏ دلالة الأسماء عليها، لأن كل اسم، فهو متضمن لصفة ولهذا قلنا فيما سبق‏:‏ إن كل اسم من أسماء الله دال على ذاته وعلى الصفة التي اشتق منها‏.‏

الطريق الثاني‏:‏ أن ينص على الصفة، مثل الوجه، واليدين، والعينين‏.‏‏.‏ وما أشبه ذلك، فهذه بنص من الله عز وجل، ومثل الانتقام، فقال عنه تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله عزيز ذو انتقام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 47‏]‏، ليس من أسماء الله المنتقم، خلافاً لما يوجد في بعض الكتب التي فيها عد أسماء الله، لأن الانتقام ما جاء إلا على سبيل الوصف أو اسم الفاعل مقيداً، كقوله‏:‏ ‏{‏إنا من المجرمين منتقمون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

الطريق الثالث‏:‏ أن تؤخذ من الفعل، مثل‏:‏ المتكلم، فأخذها من ‏{‏وكلم الله موسى تكليماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏‏.‏

هذه هي الطرق التي تثبت بها الصفة وبناء على ذلك نقول‏:‏ الصفات أعم من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة متضمنة لاسم‏.‏

وأما الصفات المنفية عن الله عز وجل، فكثيرة ولكن الإثبات أكثر، لأن صفات الإثبات كلها صفات كمال، ولكما تعددت وتنوعت، ظهر من كمال الموصوف ما هو أكثر، وصفات النفي قليلة، ولهذا نجد أن صفات النفي تأتي كثيراً عامة، غير مخصصة بصفة معينة، والمخصص بصفة لا يكون إلا لسبب، مثل تكذيب المدعين بأن الله اتصف بهذه الصفة التي نفاها عن نفسه أو دفع توهم هذه الصفة التي نفاها‏.‏

فالقسم الأول العامة، كقوله تعالى ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، قال ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ في علمه وقدرته وسمعه وبصره وعزته وحكمته ورحمته‏.‏‏.‏ وغير ذلك من صفاته، فلم يفصل، بل قال‏:‏ ‏(‏ليس كمثله شيء‏(‏ في كل كمال‏.‏

أما إذا كان مفصلاً، فلا تجده إلا لسبب، كقوله ‏{‏ما اتخذ الله من ولد‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏، رداً لقول من قال‏:‏ إن لله ولداً وقوله‏:‏ ‏{‏لم يلد ولم يولد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3‏]‏ كذلك وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏، لأنه قد يفرض الذهن الذي لا يقدر الله حق قدره أن هذه السماوات العظيمة والأرض العظيمة إذا كان خلقها في ستة أيام، فسيلحقه التعب، فقال‏:‏ ‏{‏وما مسنا من لغوب‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏، أي‏:‏ من تعب وإعياء‏.‏

فتبين بهذا أن النفي لا يرد في صفات الله عز وجل إلا على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص لسبب، لأن صفات السلب لا تتضمن الكمال إلا إذا كانت متضمنة لإثبات، ولهذا نقول‏:‏ الصفات السلبية التي نفاها الله عن نفسه متضمنة لثبوت كمال ضدها، فقوله ‏{‏وما مسنا من لغوب‏}‏‏:‏ متضمن كمال القوة والقدرة وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏:‏ متضمن لكمال العدل وقوله‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏‏:‏ متضمن لكمال العلم والإحاطة‏.‏‏.‏ وهلم جراً، فلا بد أن تكون الصفة المنفية متضمنة لثبوت، وذلك الثبوت هو كمال ضد ذلك المنفي وإلا، لم تكن مدحاً‏.‏

لا يوجد في الصفات المنفية عن الله نفي مجرد لأن النفي المجرد عدم والعدم ليس بشيء، فلا يتضمن مدحاً ولا ثناء، ولأنه قد يكون للعجز عن تلك الصفة فيكون ذماً، وقد يكون لعدم القابلية، فلا يكون مدحاً ولا ذماً‏.‏

مثال الأول الذي للعجز قول الشاعر‏:‏

قبيلة لا يغدرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة خردل

ومثال الثاني الذي لعدم القابلية‏:‏ أن تقول‏:‏ إن جدرانا لا يظلم أحداً‏.‏ والواجب علينا نحو هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه والتي نفاها أن نقول‏:‏ سمعنا وصدقنا وآمنا‏.‏

هذه هي الصفات فيها مثبت وفيها منفي، أما الأسماء فكلها مثبتة‏.‏

لكن أسماء الله تعالى المثبتة منها ما يدل على معنى إيجابي، ومنها ما يدل على معني سلبي، وهذا هو مورد التقسيم في النفي والإثبات بالنسبة لأسماء الله‏.‏

فمثال التي مدلولها إيجابي كثير‏.‏

ومثال التي مدلولها سلبي‏:‏ السلام‏.‏ ومعنى السلام، قال العلماء‏:‏ معناه‏:‏ السالم من كل عيب‏.‏ إذاً، فمدلوله سلبي، بمعنى‏:‏ ليس فيه نقص ولا عيب، وكذلك القدوس قريب من معنى السلام، لأن معناه المنزه عن كل نقص وعيب‏.‏

فصارت عبارة المؤلف سليمة وصحيحة وهو لا يريد بالنسبة للأسماء أن هناك أسماء منفية، لأن الاسم المنفي ليس باسم لله، لكن مراده أن مدلولات أسماء الله ثبوتية وسلبية‏.‏

فلا عدول لأهل السنة والجماعة‏(‏1‏)‏ عما جاء به المرسلون‏(‏2‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ العدول‏:‏ معناه الانصراف والانحراف، فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل‏.‏

وإنما جاء المؤلف بهذا النفي، ليبين أنهم لكمال اتباعهم رضي الله عنهم لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل، فهم مستمسكون تماماً، وغير منحرفين إطلاقاً، عما جاءت به الرسل، بل طريقتهم أنهم يقولون‏:‏ سمعنا وأطعنا في الأحكام وسمعنا وصدقنا في الأخبار‏.‏

‏(‏2‏)‏ ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام والواضح أننا لا نعدل عنه، لأنه خاتم النبيين، وواجب على جميع العباد أن يتبعوه، لكن ما جاء عن غيره، هل لأهل السنة والجماعة عدول عنه‏؟‏ لا عدول لهم عنه، لأن ما جاء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام في باب الأخبار لا يختلف، لأنهم صادقون ولا يمكن أن ينسخ، لأنه خبر، فكل ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل، فهو مقبول وصدق ويجب الإيمان به‏.‏

مثلاً‏:‏ قال موسى لفرعون لما قال له‏:‏ ‏{‏قال فما بال القرون الأولى ‏(‏51‏)‏ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 51-52‏]‏، فنفى عن الله الجهل والنسيان، فنحن يجب علينا أن نصدق بذلك، لأنه جاء به رسول من الله ‏{‏قال فمن ربكما يا موسى ‏(‏49‏)‏ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49-50‏]‏، فلو سألنا سائل‏:‏ من أين علمنا أن الله أعطى كل شيء خلقه‏؟‏ فنقول‏:‏ من كلام موسى، فنؤمن بذلك، ونقول‏:‏ أعطى كل شيء خلقه اللائق به، فالإنسان على هذا الوجه، والبعير على هذا الوجه، والبقرة على هذا الوجه، والضأن على هذا الوجه، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه ومنافعه، فكل شيء يعرف مصالحه ومنافعه، فالنملة في أيام الصيف تدخر قوتها في جحورها، ولكن لا تدخر الحب كما هو، بل تقطم رؤوسه، لئلا ينبت، لأنه لو نبت، لفسد عليها، وإذا جاء المطر وابتل هذا الحب الذي وضعته في الجحور، فإنها لا تبقيه يأكله العفن والرائحة، بل تنشره خارج جحرها حتى ييبس من الشمس والريح، ثم تدخله‏!‏

لكن يجب التنبيه إلى أن ما نسب للأنبياء السابقين يحتاج فيه إلى صحة النقل، لاحتمال أن يكون كذباً، كالذي نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى وقوله رحمه الله‏:‏ ‏"‏عما جاء به المرسلون‏"‏ هل يشمل هذا الأحكام أو أن الكلام الآن في باب الصفات، فيختص بالأخبار‏؟‏

إن نظرنا إلى عموم اللفظ، قلنا‏:‏ يشمل الأخبار والأحكام‏.‏

وإن نظرنا إلى السياق، قلنا‏:‏ القرينة تقتضي أن الكلام في باب العقائد وهي من باب الأخبار‏.‏

ولكن نقول‏:‏ إن كان كلام شيخ الإسلام رحمه الله خاصاً بالعقائد، فهو خاص، وليس لنا فيه كلام‏.‏ وإن كان عاماً، فهو يشمل الأحكام‏.‏

والأحكام التي للرسل السابقين اختلف فيها العلماء‏:‏ هل هي أحكام لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافها، أو ليست أحكاماً لنا‏؟‏

والصحيح أنها أحكام لنا، وأن ما ثبت عن الأنبياء السابقين من الأحكام، فهو لنا، إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه، فهو على خلافه، فمثلاً‏:‏ السجود عند التحية جائز في شريعة يوسف ويعقوب وبنيه، لكن في شريعتنا محرم، كذلك الإبل حرام على اليهود‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ ولكن هي في شريعتنا حلال‏.‏

فإذاً، يمكن أن نحمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أنه عام في الأخبار والأحكام، وأن نقول‏:‏ ما كان في شرع الأنبياء من الأحكام، فهو لنا، إلا بدليل‏.‏

ولكن يبقى النظر‏:‏ كيف نعرف أن هذا من شريعة الأنبياء السابقين‏؟‏

نقول‏:‏ لنا في ذلك طريقان‏:‏ الطريق الأول‏:‏ الكتاب، والطريق الثاني‏:‏ السنة‏.‏ فما حكاه الله في كتابه عن الأمم السابقين، فهو ثابت وما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فهو أيضاً ثابت‏.‏

والباقي لا نصدق ولا نكذب، إلا إذا ورد شرعنا بتصديق ما نقل أهل الكتاب، فإننا نصدقه، لا لنقلهم، ولكن لما جاء في شريعتنا‏.‏ وإذا ورد شرعنا بتكذيب أهل الكتاب، فإننا نكذبه، لأن شرعنا كذبه‏.‏ فالنصارى يزعمون بأن المسيح ابن الله، فنقول‏:‏ هذا كذب، واليهود يقولون‏:‏ عزير ابن الله، فنقول‏:‏ هذا كذب‏.‏

فإنه‏(‏1‏)‏ الصراط المستقيم‏(‏2‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏(‏فإنه‏)‏‏:‏ الضمير يعود على ما جاءت به الرسل ويمكن أن يعود على طريق أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة‏:‏ هو الصراط المستقيم‏.‏

‏(‏2‏)‏ ‏(‏صراط‏)‏‏:‏ على وزن فعال، بمعنى‏:‏ مصروط، مثل‏:‏ فراش، بمعنى‏:‏ مفروش، وغراس، بمعنى‏:‏ مغروس، فهو بمعنى اسم المفعول‏.‏ والصراط إنما يقال للطرق الواسع المستقيم مأخوذ من الزرط وهو بلع اللقمة بسرعة، لأن الطريق إذا كان واسعاً، لا يكون فيه ضيق يتعثر الناس فيه، فالصراط يقولون في تعريفه‏:‏ كل طريق واسع ليس فيه صعود ولا نزول ولا اعوجاج‏.‏

إذاً، الطريق الذي جاءت به الرسل هو الصراط المستقيم، الذي ليس فيه عوج ولا أمت، طريق مستقيم ليس فيه انحراف يميناً ولا شمالاً‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏

وعليه، فيكون المستقيم صفة كاشفة على تفسيرنا الصراط بأنه الطريق الواسع الذي لا اعوجاج فيه، لأن هذا هو المستقيم أو يقال‏:‏ إنها صفة مقيدة، لأن بعض الصراط قد يكون غير مستقيم كما قال تعالى ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم ‏(‏23‏)‏ وقفوهم إنهم مسئولون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23-24‏]‏، وهذا الصراط غير مستقيم‏.‏

صراط الذين أنعم الله عليهم‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ‏"‏صراط الذين أنعم الله عليهم‏"‏، أي طريقهم وأضافه إليهم لأنهم سالكوه، فهم الذين يمشون فيه، كما أضافه الله إلى نفسه أحياناً‏:‏ ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ‏(‏52‏)‏ صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52-53‏]‏، باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده، وأنه موصل إليه، فهو صراط الله باعتبارين وصراط المؤمنين باعتبار واحد، صراط الله باعتبارين هما‏:‏ أنه وضعه لعباده، وأنه موصل إليه وصراط المؤمنين، لأنهم هم الذين يسلكونه وحدهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏الذين أنعم الله عليهم‏"‏‏:‏ النعمة‏:‏ كل فضل وإحسان من الله عز وجل على عباده، فهو نعمة وكل ما بنا من نعمة، فهو من الله، ونعم الله قسما‏:‏ عامة وخاصة، والخاصة أيضاً قسمان خاصة، وخاصة أعم‏.‏

فالعامة‏:‏ هي التي تكون للمؤمنين وغير المؤمنين ولهذا، لو سألنا سائل‏:‏ هل لله على الكافر نعمة‏؟‏

قلنا‏:‏ نعم ، لكنها نعمة عامة وهي نعمة ما تقوم به الأبدان لا ما تصلح به الأديان، مثل الطعام والشراب والكسوة والمسكن وما أشبه ذلك، فهذه يدخل فيها المؤمن والكافر‏.‏

والنعمة الخاصة‏:‏ ما تصلح به الأديان من الإيمان والعلم والعمل الصالح، فهذه خاصة بالمؤمنين، وهي عامة للنبيين والصديقين، كالشهداء والصالحين‏.‏

ولكن نعمة الله على النبيين والرسل نعمة هي أخص النعم، واستمع إلى قوله تعالى ‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏، فهذه النعمة التي هي أخص لا يلحق المؤمنين فيها النبيين، بل هم دونهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏صراط الذين أنعم الله عليهم‏"‏‏:‏ هي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم ‏(‏6‏)‏ صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6-7‏]‏‏.‏